في أحضان جبال الأطلس الرائعة،حيث تعانق القمم أشجار الجوز الباسقة،تنبث قرية صغيرة ببيوت تطل على السفح ،المنظر الطبيعي ساحرتفننت يد الخالق في إبداعه.أهل القرية طيبون طيبوبة هوائها،أنبتهم الله نباتا حسنا.
في تلك الأعالي الغارقة في الجمال يعيش "حمو" مع زوجته "طامو"،عرف الرجل بحكمته وحنكته، إليه يرجع الأمر في الكثير من أحوال القرية وشؤونها فلقبوه :"فكاك الوحايل"
كان الرجل يؤثر الصمت على الكلام ،تعلو وجهه سحنة خجولة،وتضفي عليه لحيته المعتدلة هبة ووقارا.تتضايق "طامو" من صمته الرهيب فتحاول أن تخرجه منه بشتى السبل فلا تفلح،فلا تجد بدا من الصراخ في وجهه:
"أنت دائما هكذا ،عابسا واجما وكأنك تحمل هذه الجبال فوق منكبيك"
يجيبها بابتسامة هادئة أو نظرة ساخرة ،فتزيد حنقا على حنق:
"أرى أيضا أن التفكير واالشرود يذهبان بك كل مذهب...لا ..لا بد أنك تخفي عني شيئا عظيما .... أم أني أصبحت لا أملأ لك العين ...أممم...فهمت تفكر في امرأة أخرى ...هذا لن يكون لك.."
يجيبها مستغربا:
" امرأة ؟الزواج..هذا ما تبقى لي"
"أنتم معشر الرجال سواسية تفكيركم لا يخرج عن هذا النطاق،و إلا مايشغلك،ويقض راحتك؟ ألك سر تخفيه"
يضحك ثم يعود إلى جديته ويقول:
" لنقل إن لي سرا أخفيه، أوأدفنه في نفسي... هل أجازف بإخبارك فينتشر في القرية بل في - المغرب كله - انتشار النار في الهشيم ؟"
قالت عاتبة:
"تجازف؟؟؟ ما مقدار المجازفة لديك؟؟"
استوى في جلسته ثم أجاب:
"لا أستطيع إخبارك بشيء ..فالأمر جلل."
"جلل؟؟"
"أجل..سر تنهد له الجبال،لكني أخاف أن ..." قاطعته:
"تخاف ماذا؟؟ أخبرني وأقسم بما تقسم به الحرائر أن أدفن سرك في بئر"
طلب منها أن تقترب فهمس في أذنها:
"لقد قتلت صديقي..كان هذا بسببك ..."
قامت من مكانها وهي تردد :
"يا لطيف يالطيف ..." ثم اقتربت منه وقالت:
"من؟ وكيف؟ ومتى؟ و بسببي؟ "
"اهدئي يا امرأة سأخبرك بكل شيء،على أن تعديني بالكثمان و إلا فالسجن ينتظرني...أترغبين في ذلك؟"
" قطع الله لساني قبل أن أتفوه به "
"كان هذا منذ ثلاثين سنة .عثمان صديقي ورفيق دربي.." قاطعته:
" لا تقل إنك قاتله . كيف تفعل هذا بأمه التي هلكت بسبب اختفائه؟"
" قال إنه سيتزوجك،وكنت قد أخبرته بحبي لك ،فأصر على عناده ..فلم أر من حل إلا قتله و إبعاده عن طريقي"
"لا حول ولا قوة إلا بالله..أنت شيطان في صورة إنسان"
"هذا ما قدره الله وقد ندمت ندما شديدا وتبت إلى ربي الان"
" وأين قمت بقتله ؟"
" استدرجته في إحدى الليالي المظلمة إلى القرب من مغارة الذئب هناك في سفح الجبل.دعوته إلى أن يطاعمني ونتحدث في أمور كثيرة بما فيها أمرك أنت،فقد شغلت الشباب بجمالك. فقد شاع ذكرك على لسانهم."
قاطعته معتدة بنفسها :
" أحقا؟؟؟ كانوا يتحدثون عني؟؟... لا بأس أكمل."
"دسست له السم الناقع في الطعام،ولم يمهله إلا قليلا حتى فارق الحياة تعذب كثيرا..مسكين.. رحمه الله." صمت قليلا بعد أن رأى زوجته تدمع ثم أكمل:
" دفنته هناك بالمكان المعلوم ووضعت فوق قبره حجرا كثيرا حتى أ موه الناس..ومايزال الحجر بمكانه أمر عليه وأ تذكره ..وإن شئت ذهبنا إليه ورأيت"
في اليوم الموالي ذهب بها إلى قبر القتيل..و أراها كل شيء ثم قال لها:
" لقد عاهدتني بكثم السر فهل أنت كاتمة عني و أن وقع مني ما يسوؤك يوما؟"
لم تجبه بشيء ثم انصرفا.
................
مضت سنة كامله على بوح" حمو" لزوجته بخبر قتله لصاحبه "عثمان"،ومنذ ذاك الحين لم يذكر الخبر ولم يكن معرض حديثهما.
في أحد الأيام عاد "حمو" من السوق ،وبدت على وجهه ملامح الارتباك والحيرة،فتنبأت "طامو" بأنه سيقول لها شيئا مريبا.
بعد أن أخذ قسطا من الراحة قال لها:
" اسمعيني يا امرأة ..أريد أن أقول لك إني فكرت في الزواج من امرأة أخرى على سنة الله ورسوله ..كنزة جارتنا..كان زوجها رحمه الله صديقا لي ،وهي الان لوحدها فإن شئت ضممتها إليك .والله لايضيع أجرك."
ردت عليه مريبة:
"لابد أنك تمزح..كيف تجرؤ على التفكير في هذا..أقسم ب..."
قاطعها:
" دعك من أقسم ،هذا أمر لا مفر منه ،ثم إن الله لم يرزقنا الولد .ليس من الامر شيء أن تؤنس "رحمة" وحشتنا وتملأ علينا المكان"ثم أضاف:
""نحن الرجال شرع الله لنا الزواج مثنى وثلاث ورباع..أتعترضين أمر الله؟؟؟"
قالت وحلقها يتفجر غضبا:
"طلقني إذن.."
" لا أستطيع بعد كل هذه السنين"
" قلت لك طلقني إن كنت رجلا"
" أنت طالق طالق طالق"
"فعلتها أيها القتال"
ثم وضعت أصابعها في أذنيها وصرخت صرخة اهتزت لها تلك الجبال ،ثم خرجت وصاحت في الناس بصوت عال:
"هذا قتال ..زوجي قتال ..هو قاتل "هشام" و أعرف المكان الذي دفنه فيه"
سقط الخبر الصادم على القرية كالبركان فتهامست به الناس واقتادوا "حمو" إلى حيث أشارت لهم زوجته، إلى قبر "عثمان" .انطلقوا إلى عين المكان والمعاويل والفؤوس على أكتافهم.
بلغوا المكان فقالت لهم :
" هنا.... هنا تحت هذه الحجارة"
انخرطت الفؤوس والمعاويل في الحفر والناس تهتف " القتال القتال.. حمو القتال"
وصلو إلى عمق الحفرة ثم فجأة يظهر جلد خروف وعظامه "
التفتت الناس إلى "طامو" فصاحوا في وجهها :
"أهذا قبر عثمان ؟؟؟؟؟"
لم تنبس بشيء عندها نطق الحكيم حمو:
"إنما أردت اختبارها فقط ،لكنها لم تنجح في الاختبار إنه امتحان الأسرار..فهذا القبر هو لخروف ميت فقده الراعي بعد موت فجائي، فطلبت منه أن نحفر له حفرة ..وندفنه فيها..ولما سألني مستفسرا أجبته: غاية في نفسي سأخبرك بها فيما بعد"
توقف برهة ثم أضاف:
" أردت أن أعلمكم الدرس: لا تأتمنوا أحدا على أسراركم، خاصة النساء،فإن فعلتم أصابتكم الندامة."
النهاية.
"الحكاية من التراث الشعبي المغربي حكاها لي عمي محمد رحمه الله"
ترحموا عليه فضلا.
توقيع :عبد الكريم التزكيني