📁 آخر المقالات

سر الطلاء الأصفر (قصة بوليسية)

سر الطلاء الأصفر (قصة بوليسية)

سر الطلاء الأصفر (قصة بوليسية)

 أقبل الربيع يعزف لحن البهجة والحبور واكتسى العالم حلة من الجمال والسرور،واستعدت الناس تخطط للارتماء في أحضان الطبيعة، وتجدد طاقتها وسط أجواء مليئة بالحيوية والأمل. هذه الأجواء الرائعة دفعت عائلة " المنصوري" إلى الخروج للاستجمام و الاستمتاع  بنزهة ربيعية نحو غابة الصنوبر الهادئة." أيوب" صغير العائلة ووحيدها المدلل يرافق والديه مصطحبا  كلبه " ريكو" إلى موطن  الأشجار الباسقة التي تعانق السماء... بعد الإفطار الذي مزج نكهة الطعام بأريج الطبيعة، قرر "أيوب" أن يطلق العنان لنفسه ولرفيقه "ريكو"، فراحا يركضان كأنهما ظلان يلاحقان الشمس بين الأشجار. ضحكات الفتى كانت أشبه بنغمات على وتر الطبيعة، ممزوجة بزقزقة الطيور وهمسات الرياح، وكأن الغابة كلها تعزف سمفونية الحياة.

...فجأة يتوقف "ريكو" تحت شجرة وارف ظلها ،يشمشم الأرض بعصبية، ثم ينبح بصوت حاد مزّق هدوء المكان. اقترب أيوب، وقد ارتسمت على وجهه علامة  الدهشة  والإغراب ، اقترب بحذرٍ من  جدع الشجرة. كان الهواء مثقلا  برائحة نفاذة كأنها صرخة من أعماق الأرض. سد أنفه بيده، وسحب كلبه عائدًا إلى والديه ليخبرهما، وقد ارتسم على وجهه مزيج من الفضول والخوف.

حين وصلوا المكان، لم يحتج الأب  وقتا طويل ليطلق حكمه:

 -" لابد أن في بطن هذه الحفرة جثة ، و لا أعتقد أنها جيفة حيوان ،لذا فإخبار الشرطة حتمي وضروري."

كان صوته مزيجًا من الحزم والرهبة، وكأنما الكلمات تثقل لسانه تحت وطأة ما يتوقعه.

""""""""

لم تبد الشرطة اهتمامًا في البداية، لكنها أذعنت أخيرًا تحت إلحاح الأب... عند وصولهم إلى المكان، كان المشهد أشبه بلوحة قاتمة يغمرها الغموض. الرائحة الكريهة كانت أقوى من أن تُنكر، وبدا المكان، بظلاله الداكنة وشكله المريب، وكأنه فمٌ مفتوح يروي سرًا كتمه طويلًا.

بدأ أعوان الشرطة  بالحفر، وكانت الأرض لا تقاوم  وكأنها  تريد البوح بسرها. وحين أخرجوا أول جثة، اتضح أنها لرجل،ثم  تبعتها جثة امرأة. كان المشهد مروعًا، يحمل في طياته صمتًا ثقيلًا وأسى عميقًا. الجثتان بدتا كأنهما عاشتا قصة مأساوية طويلة انتهت بخاتمة مريرة في هذه الغابة الهادئة.

هذا المشهد، رغم بشاعته، كان يغص بالأسئلة: كيف انتهى بهما المطاف هنا؟ هل كانت هذه الحفرة نهاية مفاجئة أم نتيجة لصراع أعمق؟ كل من شاهد هذا المنظر شعر بالأسى، وكأن الغموض الذي يلف الحادثة ألقى بظلاله الثقيلة على الجميع.

حملت الجثتان للتشريح والتعرف على هويتهما،وسبب الوفاة.

لم يعثر المحققون على أي دليل مادي في عين المكان،ماعدا اثار عجلات سيارة،و طلاء أصفر نادر قل نظيره  على جدع الشجرة.

""""""

بعد التحريات الأولية، تبين أن الجثتين تعودان لزوجين أمريكيين، "ريتشارد" و"مارغريت"، اللذين تركا حياة الترف في بلدهما ليعيشا هدوء المغرب وجماله. كان "ريتشارد" رجل أعمال ناجح بملامح حادة تعكس صرامة القرارات الكبيرة، بينما "مارغريت"، بوجهها الهادئ وابتسامتها الخجولة، كانت رمزًا للرقي والنشاط الاجتماعي.

عُرف الزوجان بحبهما للطبيعة وسعيهما للبساطة، لكنهما كانا يحملان في حياتهما أسرارًا دفينة. تركا خلفهما أبناء ثلاثة: الابنة المدللة "لورا"، التي كانت تتمتع بجمال فاتن وابتسامة واثقة، والتوأمان: "إيثان"، الشاب  ذو العينين العميقتين والصمت المريب، و"كلود"، المندفع العاشق للحياة الباذخة، الذي يرى في الدنيا مسرحًا للأحلام الكبيرة.

عائلة أمريكية الأب مع ولديه

حين بلغ الأبناء خبر مقتل والديهم، هرعوا إلى المغرب محملين بالحزن والأسس. لم تخلُ لقاءاتهم مع المحققين من دموع خفية ونظرات مشوبة بالقلق. بعد شهر من التحقيقات المكثفة، تأكدت الشرطة من براءتهم، وعادوا إلى بلدهم .

لكن ماذا عن أثار العجلات ؟ألم يهتد المحققون إلى السيارة وصاحبها ؟وماذا عن بقايا الطلاء الاصفر الملتصق بالغصن؟ألا يمكن أن يقودهم إلى الفاعل؟

لم تسفر اثار العجلات عن أي نتيجة،لأن عددا هائلا من السيارات لها  نفس المقاسات.لكن خيط الطلاء الأصفر ظل يربط مصير القضية بغموض لا يمكن تجاهله،لذا تجند المحققون للبحث عن السيارة فلم يعثروا على شيء يذكر.وبعد بحث مضن طويل  أكدث الجمارك أن سيارة تحمل هذا النوع من الطلاء دخلت المغرب قبل شهرين وخرجت في غضون أيام ،وكان صاحبها أمريكيا واسمه "روبن" "مالكوم" ،كان ذو لحية كثيفة لم يوليها أي عناية ،و لا قرابة له  بالضحيتين.

زود المحققون المغاربة  نظراءهم الأمريكان بكل المعلومات والأدلة التي عثروا عليها في مسرح الجريمة، تسلمت الشرطة الأمريكية اثار العجلات وعينة من الطلاء،وانخرطت في فك طلاسيم السيارة ، فأرسلوا عينة من الطلاء إلى المختبر  الذي أكد لهم  أن عشر سيارات فقط في أمريكا قد خصت بهذا اللون ،تعرفوا على أصحابها من خلال السجلات و تأكد لهم بالملموس أن واحدة منهم تعود للضحية "ريتشارد".

على وجه السرعة  عاد المحققون الأمريكيون إلى أبناء الضحيتين،وأثناء البحث اعترف الإبن "إيثان" بأن أخاه "كلود " يركن سيارة بتلك المواصفات في مراب مهجور،قد تركها والده فاستولى عليها، وقال أيضا إنه يسافر على متنها كثيرا .و أكدت "لورا" أن أخاها " كلود"  كثير السفر ،محب للنزهة والمتعة،و أنه لم يترك معلمة سياحية إلا زارها،ولا بلدا صغيرا أو كبيرا إلا حلق في أجوائه،إلا أنه كان يفعل ذلك دون علم أحد،وأضافت:

- "لم نره منذ شهرين أو يزيد  قال إنه ذاهب إلى البرازيل،ولم نره منذ ذاك الحين،إلى ان بلغنا الخبر..لكن أخي لا يمكن أن تكون له يد فيما وقع ،رغم بعض الخلاف معنا،فإنه شديد التعلق بوالديه"

و قد حكى "إيثان" في معرض حديثه مع الشرطة،أن أخاه كان على  خلاف دائم مع والديه،فكان يتهم أباه بالبخل وقلة الإنفاق على أبنائه وهو يملك ثروة تكفي أهل الأرض قوتا قرونا. 

لم يكن "كلود" موجودا وقت استجواب أخويه ،لكن المحققين كانوا قادرين على المجيء به ولو كان في أقصى الأرض. جاءوا به وحاصروه بالأسئلة إلا أنه أبدى مقاومة كبيرة في الاعتراف .فطلبوا منه أن يدلهم على السيارة المركونة في المراب.وبكل ثقة دلهم عليها و أثناء معاينتها اكتشف أحد المحققين بالإضافة إلى اللون الأصفر النادر  أن بها خدشا عميقا يرتفع عن الأرض ب120 سنتمترا،وقد أكدت الشرطة المغربية من ذي قبل أن الطلاء الملتصق بغصن الشجرة يرتفع بنفس المقاس.ثم إن مقاس العجلات ينطبق تماما مع السيارة المركونة.

وأثبثوا له تواجده بالمغرب بالسيارة المعلومة متخفيا وراء لحيته الكثة ،من خلال الصور التي زودتها بهم الشرطة المغربية. 

طوقوه  وحاصروه من كل الزوايا بالأدلة الدامغة:

+ لون السيارة المطابق للون الموجود على الغصن بالمغرب

+ قياس العجلات مطابق تماما للاثار التي عثر عليها مكان الجريمة 

+ اكتشاف الجمارك المغربية دخول السيارة للمغرب وقت حدوت الجريمة

+ دخوله المغرب بجواز سفر مزور تم اكتشافه مؤخرا

+ خلافه مع والديه وحاجته المستمرة للمال.

لم يجد "كلود" مع هذه الأدلة الدامغة سوى الانهيار والاعتراف بجريمته،قال في معرض اعترافه:

"...قتلتهما وهما يستحقان ،أولا لأن أبي بخيل و أمي تحفظ له بخله  ،كنا نرغب في الاستمتاع بالحياة وبالاموال والأسفار،لكنه فضل إيداع أمواله في الأبناك و ترك لنا مشاريع صغيرة لا نحسن إدارتها...أردت فقط الاستمتاع بالميراث الكبير الذي خلفاه وراءهما.

خططت لكل شيء وحاولت إخفاء كل الأدلة، قطعت مسافة طويلة على متن السيارة الصفراء وقضيت وقتا طويلا ،دخلت المغرب متخفيا،كنت أعرف سكنهما لأني كنت زرتهما قبل عامين ،تسللت إليهما قبيل الفجر ،طرقت الباب ولم يجبني أحد فربما ساوتهما الشكوك ثم قلت : أنا "كلود" ابنكما كلود ،لم أخبر بمجيئي، تركتها  مفاجأة لكما ...لم تتوانى أمي في فتح الباب وفتح ذراعيها للعناق  ثم عانقت والدي ،تجادبنا أطراف الحديث على إيقاع عصير جئتهما  به كنت  قد دسست فيه منوما قوي المفعول  ،لم يصمدا طويلا فأسلما روحهما للنوم.

بعد أن سرى المنوم في جسديهما وذهب بإحساسهما ،بادرت إلى خنقهما اتباعا ،بدأت بوالدي فلفظ  أنفاسه،ثم ألحقت به والدتي.لم يبديا مقاومة كبيرة،بعدها ألقيت بهما في صندوق السيارة الصفراء وتوجهت بهما نحو الغابة ،فدفنتهما هناك..."

 هكذا، انتهت القصة في أروقة الشرطة ، لكن الغابة ظلت شاهدة على كل شيء. ظلت الشجرة التي التصق بجذعها الطلاء الأصفر شامخة في صمت، تحمل في جذورها سرًا لا يزال يهمس بأن الطمع هو القاتل الأعظم في كل الحكايات.

توقيع :عبد الكريم التزكيني 

تعليقات