الواد المسكون (حكاية مرعبة)
الجزء الثاني
.... و نطق ابن " با الطيب" مستفسرا عن "رونو 4":
" أين السيارة؟؟ "رونو 4" لم أرها معكما ؟"
قال الرجل بصوت متهدج:
" إنها بالوادي المسكون..فلا تذهب إليها إلا ومعك الفقيه"
وما إن تفوه الرجل بكلامه ،حتى عم المكان صمت رهيب كأنما أطبق الليل بأسره على البيت. نظرت الأم إلى زوجها بعينين تحملان خوفًا دفينًا،وعلامات استفهام قد طرقت فكرها، بينما وقف الابن محدقًا في والده وكأن الكلمات لم تصله إلا على هيئة صدى بعيد.
"الوادي المسكون؟ ومن هم سكانه؟ لاشك أنك تمزح" قال بصوت متردد، مختنق بشيء لا يعرفه، ثم أكمل: "أهذه خرافة أخرى تحكونها لي؟ أم أن والدي صدم السيارة بشء فتركها هناك؟"
تنهد الرجل بعمق، كأنه يحاول كتم ذكرى ثقيلة. "إنها ليست خرافة، يا بني... الوادي ليس كأي مكان. ما يراه الناس هناك لا يمكن تفسيره."
زاحمت الحيرة عقل الإبن ودب الرعب في عينيه ، لكنه لم يستطع كبح فضوله:
"ما الذي حدث؟ أخبرني ؟"
رد الرجل وهو يشير إلى "با الطيب" :
"اسأل أباك عله يخبرك بأهوال مارأى."
التفت الإبن إلى أبيه وهو ينتظر أن يجود لسانه بما يطفيء فضوله وقلقه،لكن "با الطيب" ظل واجما وعيناه مفتوحتان من هول الصدمة.
جرت قشعريرة هلع في جسد الابن ،ومع ذلك تظاهر بالشجاعة ، فلم يستطع منع نفسه من التفكير في السيارة. قال بعزم، رغم الخوف الذي حاول إخفاءه:
"لا أستطيع أن أتركها هناك. يجب أن أستعيدها. ولكن... سأذهب مع الميكانيكي، ليس مع الفقيه كما قلت.لأن السيارات لا يصلح أمرها إلا أمثال "السي صالح"
ذهب الابن إلى الوادي في وضح النهار، مصطحبًا معه الميكانيكي " السي صالح"، رجل عجوز ذو خبرة طويلة في إصلاح السيارات، ولكنه كان سريع الانفعال ولا يؤمن بالخرافات. وقف الاثنان عند مدخل الوادي، تحيط بهما بضع نخلات باسقة وأشجار كثيفة متشابكة كأنها تحاول إخفاء ما وراءها، والهواء هناك ساكن بشكل غريب كأن الزمن قد توقف.
" أين سكانه ،اه،يقصدون النخيل وأشجار الأثل الكثيفة،وربما عدد هائل من سكان الأحجار الملساء..."
وبدآ التقدم على المسار الذي كان يغرق في ظلال الأشجار الكثيفة. كلما توغلا أكثر، شعر كلاهما بأن حرارة الشمس تخبو شيئًا فشيئًا، رغم أن الوقت كان زوالًا. بدت الأصوات الطبيعية تختفي تدريجيًا؛ لا زقزقة عصافير، لا حفيف أوراق،ولا صفير ريح و إنما صمت رهيب ، وكأن المكان ينتظر حدثًا غريبا.
وصلا إلى عين المكان، كانت " إركات" أو "رونو 4" متوقفة وسط طريق ضيق تحيط به الصخور العالية. بدت كما تركها الأب تمامًا، ولكن شيئًا غريبًا كان يحيط بها:كانت أرض الوادي تحت السيارة مغطاة بعلامات دائرية كبيرة محفورة بشكل عميق، وكأنها طلاسم قديمة.
قبل أن ينهي كلامه، سمعا صوتًا يأتي من بعيد. همسات متداخلة، كأن العشرات يتحدثون في آن واحد بلغة غريبة. انتفض الابن ونظر حوله بحذر، لكن الميكانيكي تابع عمله غير مكترث.
لكن الصوت اقترب أكثر فأكثر، وتحول إلى ضحكات مكتومة ثم إلى خطوات ثقيلة، حفيف أقدام من بين الأشجار. فجأة، تحركت أغصان الشجر من تلقاء نفسها، وبدأت الطلاسم المحفورة على الأرض تتوهج بضوء أخضر ودخان أبيض.
قبل أن يتمكنا من الهرب، ظهرت أشكال مظلمة بين الأشجار، كأنها تتشكل من الظل نفسه. لم تكن لهم ملامح واضحة، عيونهم تلتهب كالجمر وسط الظلام. أحاطوا ب " إركات" وبالاثنين، ثم فجأة توقفت الحركة.
حاول الابن التحدث، لكن الكلمات خانته، بينما بدأ الميكانيكي"السي صالح" يتمتم بآيات قرآنية لم يحسن حفظها، كان يردد بصوت مرتجف " لبببببسممم الله الر..... الله لاإله إلا هو" واختلطت أية الكرسي على طرف لسانه بمزيج الرعب المقذوف في نفسه، لا شيء تغير. وطفقت الأرض تهتز من تحتهما كأنها جان، وظهرت شقوق صغيرة انبعثث منها جماعة من الرجال، أرجلهم في الأرض و أعناقهم في السماء.حاصرت الرجلين في دائرة ،و لم يعودا قادرين على الحركة ،لقد تجمدت الدماء في عروقهما. كلما بادرا بالهرب، ظهرت أقدام الرجال تمنعهم، أقدام من ثلاثة أصابع وكل أصبع بظفر كالخنجر. مرت الساعات ببطء، واستحال النهار ليلا، ليجدا نفسيهما في الظلام الدامس، محاطين بأصوات الهمسات والضحكات التي لا تتوقف.
في وسط هذا المشهد المرعب، تقدم كبير الرجال ذوي الأعناق الشاهقة إلى منتصف الدائرة. كانت هيئته مخيفة، لكنه أوتي من الحكمة خيرا كثيرا . رفع رأسه عالياً، وتحدث بصوت هادر، كأنه صوت الحكمة :
"يا بني الإنسان، أنتم أسياد الأرض، ولكنكم نسيتُم أنكم جزء منها. تسلبون دون أن تفكروا، وتقتلعون دون أن ترحموا،وتقتلون وأنتم تجهلون وتُفسدون في الأرض ولا تصلحون . نحن، مخلوقات أمثالكم ،وحقنا في الحياة هو حقكم فيها...كنا نراقبكم بصمت منذ قرون، وها قد طفح الكيل. أنتم ظالمون لأنفسكم ولمن حولكم. أنتم تتنفسون، ولكن هل فكرتم كم كائنًا يُضحَّى ليبقى هواءكم نقيا ؟ أنتم تأكلون، وتضحون بالأنعام ولا تأبهون؟ أنتم تأخذون كل شيء، ولا تعطون شيئًا."
بعد أن ألقى حكيمهم كلماته، علت همسات الاخرين وكأنها اتخذت قرارًا نهائيًا. تقدم منهم أحد المخلوقات، وأشار بيده التي تشبه الجذور المعقوفة نحو الأرض. شُقّت الأرض مجددًا، وظهر تابوتان مصنوعان من خشب أسود لامع، كأنهما الليل في حلكته.قال متوعدا:
"حُكم علينا منذ الأزل ألا نتسامح مع المتطفلين الظالمين . وأنتما منهم ، ستظلان أحياء ، لكنكما ستعرفان معنى الخوف الحقيقي. ستدفنان في مقبرة الظلام أحياء، وستبقى أرواحكم حبيسة التوابيت حتى تنتهي الليالي أو تنتهي عقولكم."
في مقبرة الرعب وُضع كل منهما في تابوت منفصل، وأُغلقت الأغطية فوقهما بصوت مخيف كصدى ينذر بنهاية الحياة. بدأ التابوتان ينزلان ببطء إلى حفرتين عميقتين، وأخذ الظلام يزداد سوادا يزيد من سواد أيامهما .
حين استقر التابوتان في الأعماق، بدأت أصوات الكائنات المرعبة تحيط بهما. عيون حمراء متوهجة، خيالات تتحرك في كل مكان، وأصوات غريبة أشبه بصراخ وأزيز لا يُحتمل. طيلة الليل، كانا يسمعان الخربشات على جدران التوابيت، كأن المخلوقات كانت تحاول فتحها أو العبث بما بداخلها.
لم تكن هناك راحة، ولا سبيل للهرب. كل دقيقة كانت تمر كأنها دهور، والخوف الذي ملأ القلوب كان أشد من الموت ذاته.قال أحد المخلوقات الغريبة،وهو يطل عليهما من عل:
"لا أعلم أيكما سيفقد عقله أولا، ولا أدري منكما من سيسلم الروح إلى بارئها،لكني أعلم- إن صمدتما - أن خلاصكما من هذين التابوتين ومن أهوالهما رهين بالتوبة والاعتذار لكل من ناله شر- منكما ومن أمثالكم - من مخلوقات الله"
ظل الإبن والميكانيكي في تلك الأهوال في تابوتيهما ليال وليال.فكيف السبيل إلى خلاصهما؟ وهل تمكنا من ذلك؟
هذا ماسنتعرفه في الجزء الثالث والأخير من حكاية "الواد المسكون"
توقيع :عبد الكريم التزكيني