...حين استقر التابوتان في الأعماق، بدأت أصوات الكائنات المرعبة تحيط بهما. عيون حمراء متوهجة، خيالات تتحرك في كل مكان، وأصوات غريبة أشبه بصراخ وأزيز لا يُحتمل. طيلة الليل، كانا يسمعان الخربشات على جدران التوابيت، كأن المخلوقات كانت تحاول فتحها أو العبث بما بداخلها.
لم تكن هناك راحة، ولا سبيل للهرب. كل دقيقة كانت تمر كأنها دهور، والخوف الذي ملأ القلوب كان أشد من الموت ذاته.قال أحد المخلوقات الغريبة،وهو يطل عليهما من عل:
"لا أعلم أيكما سيفقد عقله أولا، ولا أدري منكما من سيسلم الروح إلى بارئها،لكني أعلم- إن صمدتما - أن خلاصكما من هذين التابوتين ومن أهوالهما رهين بالتوبة والاعتذار لكل من ناله شر- منكما ومن أمثالكم - من مخلوقات الله"
ظل الإبن والميكانيكي في تلك الأهوال في تابوتيهما ليال وليال.
''''''''''''''''''''''''''''''''''''''''''
...هرعت القرية تقتفي أثر الفقيدين،ولت وجهها شطر الوادي،تقدم الفقيه وجر خلفه بعض الفضوليين الذين لا يعرف الخوف سبيلا إلى قلوبهم أو هكذا يقولون،لأن الخوف غزيزة دبها الله في نفوس المخلوقات رحمة بها حتى تتجنب كل المخاطر.التفت الفقيه إليهم وقال :
" إذا بلغنا الوادي فلا يخوض أحدكم في أمور الدنيا،اذكروا الله يذكركم واستعيذوا به يجركم"
وصلوا الوادي في الأصيل،كان المكان صامتا هادئا إلا من وساوس الشياطين وتغاريد العصافير ،دب الرعب في القلوب بسبب الصمت القاتل الذي يخيم على المكان،لم تعد ألسنة الفضوليين طويلة بما يكفي لتحدث بما يطرق فكرها من أسئلة وحيرة،فالفقيه قد حذرهم مسبقا ،وفي مثل هذه الأمور عليهم أن يمتثلوا للأوامر.
أخذوا يمسحون الوادي بأبصارهم ،يتطلعون إلى الفقيدين وإلى السيارة "إركات" أو "رونو4"،وبعد هنيهة لاحت لأحدهم من بعيد:
" ألا ترون إنها "طونوبيل" "با الطيب"،أم كذبتني عيني؟"
تعالت الأصوات من خلفه:
" هي والله هي ...هي تماما..إركات..."
صرخ الفقيه في وجوههم:" ألم أقل لكم التزموا الصمت عند بلوغ المكان؟"
بلغوا السيارة،إركات الجميلة،ماتزال تحافظ على شبابها،يقترب منها الجميع بحذر،وتتسابق أعين الفضوليين من خلف الزجاج إلى الداخل.لا أثر للفقيدين.جرب أحدهم فتح الباب فانفتح ثم دخل وجلس ثم لحق به اخر ..وثالث..ثم الفقيه ولم تعد تتسع لأكثر من ذلك.قال الفقيه :
"هذا عجب عجيب،هل ابتلعتهما هذه الأرض المباركة أم تراهم في في ضيافة أهل المكان"
كاد أحد الفضوليين أن ينفجر ضحكا من قول الفقيه،لكنه وضع راحته على فمه .
...فجأة انشقت الأرض وابتلعت السيارة بمن فيها ومن حولها ،تعالت الصيحات ودب الذعر وعم الصراخ ،ولم ينفع الفقيه مايحفظ لأن هول الصدمة محا ذاكرته من كل شيء.
في أعماق الخندق الذي ابتلعهم انتصبت محكمة كبيرة قضاتها بأحجام كبيرة و بأبصار رهيبة يتوسطهم كبيرهم ،كان ذا مهابة... أشار إلى أحد مساعديه بيديه...وماهي إلا لحظة حتى ظهر تابوتان ،فأشار إليهما ثم قال للفقيه وجماعته في تهكم:
"أتبحثان عن هذين؟ الميكانيكي وصاحبه؟ لا تقلقوا مازالا على قيد الحياة ،لكنها حياة من جحيم" ثم التفت إلى الفقيه وقال :
" أنت أيها الفقيه ،ألست حافظا لكتاب الله؟؟؟أراك تعظ الناس ولاتعمل بما تقول لهم،ولو فعلت ما كنا قادرين على إدخالك هذا الخندق،أتريد أن أفضحك أمام هؤلاء عن شطحاتك التي لاتنتهي؟" رفع الفقيه يده وهو يقول " أنا إلى الله تائب فلا تقل شيئا استر عني ما ستر الله"
زمجر في وجهه ثم قال :
"لا تتحدث مرة أخرى حتى اذن لك دعني أكمل كلامي" ثم استوى في جلسته وعدلها و أردف:
" نحن مخلوقات الله العادلة،سلطنا الله على أمثالكم،من الذين يقولون ما لا يفعلون،و أنت أيها الفقيه كم مرة تلوت على مسامع هؤلاء قول الله عز وجل "كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لاتفعلون"،ولو أردت أن أكشف أسرار هولاء جميعا لفعلت ولانهدت لسماعها الجبال:غدر مكر ،خديعة نفاق،قتل حرب،نهب سلب..."
صمت قليلا ثم أكمل:
" هذا يحدث بينكم ،فأنتم وشأنكم ،لكن حين يتعلق الأمر بمخلوقات الله الأخرى ،فنحن بالمرصاد لكم.وما نحن إلا أمم أمثالكم ،منا الصالحون ومنا دون ذلك،نتاذى فيما بيننا لكن لا نؤدي أحدا من العالمين.
أما أنتم فقد تمكن الغرور من نفوسكم وذهب بكم كل مذهب ،فاعتقدتم أن كل خلائق الله ما خلقت إلا لأجلكم، وما وجدت إلا لإمتاعكم، فصرتم تدوسونها بأقدامكم من غير شفقة ولا رحمة.
هذا درس لك أيها الفقيه ،عد راشدا وجر خلفك أصحابك ،وبلغ الرسالة لبني البشر،فإن تماديتم فسترون من الأهوال ماالله عالم به،وسينالكم منا من الشرور ما لا طاقة لكم به.
ولا تنس أيها الفقيه أن تأخذ معك هذين- يشير إلى التابوتين ويقصد الميكانيكي وصاحبه- فالله سيرد عليهما عقلهما بعد شهر أو أقل ،لأنهما ذاقا من الأهوال ما الله عالم به. اذهبوا جميعا وبلغوا ما استطعتم،فهذه الأرض عليها الكثير من الخلق فارأفوا بهم كما أمركم الله،ولا تحسبوا أن كل ماتراه أعينكم هو الخلق ،فقد حجب الله عنكم الكثير رحمة بكم ،ولا تخالوا أيضا أن علمكم الذي تتبجحون به سيطلعكم على كل مافي الوجود،فما أوتيتم من العلم إلا القليل...
ارجعوا إلى أهاليكم فبلغوهم رسالتنا وقولوا لهم: إن عدتم عدنا"
النهاية
توقيع:عبد الكريم التزكيني