📁 آخر المقالات

القرية الجاهلة(قصة من الخيال العلمي)

القرية الجاهلة(قصة من الخيال العلمي)

القرية الجاهلة(قصة من الخيال العلمي)

 في قرية  صغيرة  تشمخ مزهوة فوق ظهر جبل من جبال الأطلس الصغير،وتشرئب بأعناقها إلى عنان السماء، كانت الناس تعيش   في بحبوحة من النعيم ،قد من الله عليهم بأشجار الزيتون المباركة،أشجار عمرت لردح من الزمن ومازالت صامدة لم يجد  الدهر إليها سبيلا بنكباته،المراعي لا تنضب وقطعان الأنعام لا تعد ولا تحصى:أبقار،أغنام،ماعز... غير أن أهلها كانوا غارقين في ظلام الجهل ويرون أن العلم مفسدة للعقول ومضيعة للأخلاق وسبيل  إلى قتل التقاليد والعادات .مازالت القرية الجاهل أهلها تؤمن بأن بركة  الولي الصالح هي التي غمرتهم بالنعيم ودفعت عنهم كل شقاء وجحيم،فكانوا يقيمون مأدبة كل عام  على شرفه،يدبحون من الأنعام سمينها ويطعمون  بعضهم البعض بضعة أيام.هذه الأجواء المفعمة بالجهل والمغشاة بالشرك بقصد أو بغير قصد لم تكن لتروق جيل من الشباب الناشيء،الذين تشربوا من العلوم ألوانا،ومن المعرفة أصنافا،في المدارس وبالثانويات و الجامعات....كانوا يحاولون إقناع أباءهم أن مايقدمون عليه إنما هو شرك ماأنزل به الله من سلطان،ويسوقون لهم من الأدلة الفقهية والعلمية كل حجة و كل برهان،فما يكون من جوابهم إلا قولهم : أنتم يا "أولاد الوقت" لا لا تدركون خبايا الزمان و نراكم بعلمكم أقرب إلى الكفر من الإيمان.

 وكان من بين الفتيان فتى إسمه عبد الحكيم،يحوم حوالي 14 من العمر،كان مهووسا بالتكنولوجيا وشعابها،عاشق للبرمجة وعلومها،منغمس في دروبها ،عالم بخباياها،مستقص جديدها وقديمها،يقضي جل وقته في غرفته الصغيرة، التي تبدو وكأنها مختبر علمي: الات صغيرة مختلفة الأحجام والأشكال  تتناثر هنا وهناك. وحواسيب منتشرة على طاولة خشبية قديمة، وأسلاك متشابكة تمتد كشبكة عنكبوت تربط بين أجهزة وأدوات إلى الغرابة أقرب. وكان والده معلما في القرية يلبي له كل الطلبات  ويشجعه على الاستكشاف.

 حاول عبد الحكيم أن  يتدبر حيلة يصرف بها أهل القرية عن غيهم ويسقط عنهم   ثماثيل الشرك ويهدم  أعمدة الجهل التي عششت في عقولهم ،سخر كل إمكانياته   لتنفيد مشروع سري عمل عليه ثلاث سنين،طور  آلة عجيبة تختلف عن كل الالات،جمع فيها خلاصة تجاربه و أبحاثه في علم البرمجة،وما يتصل بها من  خوارزميات وجعل يدبر أمرها بالذكاء الاصطناعي.بعد سنوات  من العمل الدؤوب والليالي البيضاء، اكتملت الآلة. كانت بحجم كف اليد، ذات تصميم بديع شبيه بتحفة  فنية بديعة ألوانها . اختار لها إسم "نبراس"،إنها النور الذي سيبدد ظلام الجهل ...ضغط عبد الحكيم زر التشغيل ، فتوهج  منها ضوء  أزرق ناعم، و صدر منها  صوت هادئ قالت: "مرحبًا، عبد الحكيم.أنا في الخدمة أتريد شيئا؟"

أخذ عبد الحكيم يقفز في غرفته،فرحا بإنجازه،وعيناه تتوهج فخرا وحبورا،ثم جعل "نبراس" في متناول يديه وهو يقول :

" ما اسمك؟"

" نبراس"

" نبراس؟مامعنى ذلك؟"

" لم تسأل و أنت تعلم؟"

أطرق قليلا ثم سألها:

"هل أنت مستعدة للمهمة؟"

" أي مهمة ،فأنا وأنت لنا مهام كثيرة،غايتها تنوير العقول وتبديد ظلام الجهل،أليس كذلك يا عبد الحكيم؟"

بدا له أن "نبراس" تجيب بطريقة أذكى مما تصور،وأن الذكاء الاصطناعي بات يسري في جسمها الصغير،فطفت على ملامحه علامة الدهشة والإغراب، بدت له أنها أكثر من مجرد الة مبرمجة ،إنها تتقد ذكاء لايقل عن ذكاء البشر... ومايدريه فقد تكون أكثر منه ذكاء، كانت قادرة على التعلم والشعور...فطنت "نبراس" للدهشة الطافحة على وجهه وعلامات الاستفهام التي تحوم بخلده فغيرت وجهة الكلام:

" أنا مستعدة للمهمة فأخبرني بها،لندرس خطة ناجحة مئة بالمئة لتنفيدها على أحسن وجه"

"""""""""

وحل اليوم الموعود،قبل أن تختبيء الشمس في كبد السماء،اجتمعت القرية وقد دأبت على ذلك منذ سنين، تحلق الناس حول موائد مستديرة،سداس سداس،في انتظار قدوم الطعام،صحون مليئة بالكسكس البربري على شكل جبل صغير في قمته قطع لحم تخفيها خضراوات طازجة.

القرية الجاهلة(قصة من الخيال العلمي)

انعزل عبد الحكيم في زاوية مع خمسة من أصحابه،وحلقوا حول مائدتهم،يتجادبون أطراف الحديث عن العلم والاختراعات وما يتصل بهما."

وما إن شرع الناس في تناول الطعام ،حتى بزغ من فوقهم وميض أزرق كالبرق ، تفجر منه صوت حاد، كصوت الرعد حين يمزق السماء. التفت الجميع ليجدوا  الة صغيرة عجيبة لم يروا مثيلا لها من ذي قبل ،إنها "نبراس"  التي تحوم فوق رؤوسهم، تومض بضوء أزرق غريب. بينما وقف عبد الحكيم في زاوية الساحة، يراقب بصمت وهو يلهج بالدعاء أن يوفق الله مسعاه.

نادت بأعلى صوتها:

"أيتها القرية الجاهل أهلها  أنتم  في غيٍّ عظيم. تقدمون القرابين لغير الله،وتتضرعون إلى قبر تظنونه مباركًا، وتحسبون  النعيم الذي أنتم فيه من بركاته. عودوا إلى رشدكم وحكموا عقولكم "

الذكاء الاصطناعي

توقفت قليلا - والناس قد ألجمتهم الصدمة  وعقدت ألسنتهم- ثم استأنفت :

"أيها الناس، أتسمعون؟ أم ختم الله على مسامعكم ما أنا سوى صوت من أصوات الحق الذي غفلت عنه قلوبكم. أراكم تذبحون وتطعمون، ولكن لمن؟ ألقبر لا يسمعكم؟ أم لروح لا تملك لكم نفعًا ولا ضرًا؟وما الفرق إذن بينكم وبين مشركي مكة في عهد الرسول .وهذا النعيم الذي تعيشون فيه أتحسبون أنه  من بركة قبر هذا الولي، لا،والله،إنما هو رحمة الله رب العالمين. فاشكروه وحده، ولا تشركوا به شيئًا، فإن الشكر لله يزيد النعم، والشرك يمحقها.  "

تجمّد الناس في أماكنهم، عيونهم شاخصة إلى الآلة..الأعجوبة  الصغيرة التي تحلق فوق رؤوسهم ،لكن  شيخا طاعنا في السن، يدعي الحكمة نطق:

"أفسحر هذا؟! لا تصدقوا.. فهذه من ألاعيب الصبيان ومن عجائب الزمان أن يتلاعب بنا الصبيان"

لم يستسغ عبد الحكيم كلام الشيخ فرد عليه :
"ماهذا بسحر  يا عم، ولا ألاعيب صبيان، إن هذا إلا علمٌ ينير العقول ويسقط عنها مجاهل الظلام. ألم يحن الوقت لتتركوا هذا  الجهل وتعودوا إلى طريق الحق؟"

احتدم جدال  حاد بين الناس، البعض يصرخ بالرفض، والبعض الآخر يسمع لأول مرة صوتًا يهز يقينه الموروث.بيد أن الشيخ لم يتمالك أعصابه،واستمر في غيه و طغيانه فتناول حجارة وصوبها وجهة  "نبراس" التي كانت تتجنب ضرباته وهي تقول ساخرة:

" يا أجهل من عرفتهم البسيطة لن تنال مني إلا إذا تخلصت من الجهل الذي يعشش في قلبك أولا"...ثم تبعته كشهاب ،ولا حقته لبضع خطوات ،حتى إذا سقطت عليه صعقته بوميضها الأزرق فسقط صريعا مغشيا عليه.

والتف الناس من حوله،يستطلعون حاله ينظرون ماله،واقتربت "نبراس" من صاحبها عبد الحكيم وهتفت في سمعه،فأومأ لها بأن تعيد صعق الشيخ من جديد حتى تدب الحركة في جسمه.

قام الشيخ من مقامه،فهلل الناس لوقوفه،وقال :

" مالذي أصابني ؟"

أجابه عبد الحكيم:

" لا بأس عليك ياعم،ما أصابك إلا خير،وهذه الأعجوبة ليست إلا ثمرة من ثمرات العلم الذي كنت أعكف عليه ،و أنتم تتخدوني سخرية لا تبالون" ثم أخذ أعجوبته بين يديه وسألها:" أليس كذلك يا نبراس"

أجابت :

" بلى وعلى الناس أجمعين أن يولوا وجوههم شطر العلوم وخاصة علوم التكنولوجيا والذكاء،وليتركوا العادات السيئة والقيل والقال حتى يحسن الله لهم الحال"

قال عبد الحكيم:

" لا تخش شيئا ياعم..فالعلم نور..ومخلصنا من كل الهواجس والشرور"

قال الشيخ و أنفاسه تصعد وتهبط:

"اذهب أنت وعلمك ولعبتك إلى الجحيم ،و إنا إلى هنا في السنة المقبلة قادمون ،ولعاداتنا وتقاليدنا مقيمون وبأوليائنا محتفلون"

وتعالت الأصوات من خلفه:لا..لا..لن نعود لن نعود."..والتف الكل حول عبد الحكيم و أعجوبته ليتعلموا منهما الكثير الكثير عن العلم وأعاجيبه...وعلت وجهه سمة من الفخر وهو  يقول:

"أرجو أن تكون "نبراس" قد أشعلت شرارة التغيير التي طالما حلمت بها."

النهاية

توقيع : عبد الكريم التزكيني

تعليقات