الرجال على العهد باقون والنساء
ذات مرة جالست أحد أصحابي الأفاضل بعد طول غياب ،أذكر أني عدت من السفر ،وبعد أن تصافحنا وتعانقنا و أخذنا في الحديث كل مأخذ ،قلت له معتذرا:
" التمس لي العذر في القطيعة التي أحدث الزمان بيننا،كل هذه المدة ولم نتواصل ،ماهاتفتك وماهاتفتني ،ولا سألت عنك ولا سألت عني،و أظن أن الدهر قد أفلح في ذلك..."
لم يمهلني الفرصة للاسترسال في الاعتذارفقال:
"فهمت ماترمي إليه ياعبد الكريم،لكن دعني أسألك أولا."
قلت: " اسأل"
قال:"كم أتى من العمر عل صحبتنا؟"
قلت:" ماشاء الله.مايربو عن عشرين عاما"
قال:"وما الذي تعاهدنا عليه؟"
قلت:" أفصح،ماقصدك؟"
قال:" أقصد مالذي يجمعنا،ما أساس علاقتنا؟"
قلت :"محبة في الله،وصدق وأمانة وإخلاص،ووفاء بالعهد"
قال: "جميل ،و أنا أجمع كل هذا في عبارة واحدة:الرجولة.ومن أوتي الرجولة فقد أوتي خيرا وفيرا"
قلت:" تقصد الحكمة،لأن الله عز وجل يقول:ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا"
قال: " وما الرجولة إلا الحكمة.وهل وجدت حكيما يوما لايتمتع بصفة الرجولة؟أم أنك ألفيت الرجولة تتبرأ من حكيم...أنا علمي بالقران وعلومه وتفاسيره قليل ،لكني أعلم أن أهل الرجولة من الحكمة يمتحون."
توقف قليلا ثم استأنف:
"الرجال يا صديقي على العهد باقون،و إن فرق الزمان بينهم سنين عددا،و أشباه الرجال كثيرا مايتواصلون ،يتساءلون ،تتربص بهم الشكوك و يظنون ببعضهم الظنون.يتأكدون لأن الثقة بينهم منعدمة،وخيانة العهد أقرب إلى نفوسهم،وألصق بعقولهم.فلا يهدأ لهم بال ولا يهنأ لهم عيش إلا بالإيقاع ببعضهم البعض."
قلت:" هذا عين الحكمة"
قال:" لا لايساورك شك ياصديقي أننا على العهد باقون ،لأنا لسنا كالأخرين الذين يراقبون بعضهم البعض ويخافون نقد العهود."
هكذا كان اللقاء بيننا وبالحكمة انتهى:الرجال على العهد باقون.
و اليوم للأسف لم تعد للعهود مكانة في حياتنا،لأن السواد الأعظم من الناس أصبح اخر همه الوفاء بالعهد ،تراهم يلهتون خلف المال ومتاع الحياة الدنيا :لعب ولهو وزينة وتفاخر.فدعهم يلههم الأمل.
تجد بعض أشباه الرجال في حاجة إلى مال ،فيقترض من أقرب الناس إليه فإذا بلغ الأجل تراه متخفيا ناسيا متناسيا رد الأمانة لأهلها ،فإن ذكره بسلفه وطلب رد دينه ،كال له من السباب أصنافا ومن الشتائم ألوانا.حتى أصبح اليوم يتردد على مسامعنا:إن أردت أن تفقد صديقا لك أقرضه مالا.
وترى بعض الفتيان أو الشبان من أشباه الرجال يواعدون بنات حواء ويعدوهن بالزواج،فيشيدون لهن صروحا من الأمال وقصورا من الأحلام حتى إذا تمكنوا منهن وكسبوا ثقتهن وبلغوا منهن غايتهم ،انهدت كل الأمال و تبخرت كل الأحلام ،فعصفت بها الأكاذيب وعبتث بها الأوهام .وتركوهن عرضة لألسنة الناس و ألعوبة في أيادي الزمان وفي نفوسهن سيل من الأحزان.
ويأتي بعض الرجال باكيا مسترحما لا يجد مأوى لأولاده ولا يجد مالا لاستئجار شقة،فتجد أحد المحسنين قد رق لحاله و أسكنه أحد مساكنه رأفة به و بأولاده و أمهم لبعض الوقت أو إلى حين يجعل الله له مخرجا .فإذا طلب المحسن صاحبنا أن يسلمه مسكنه امتنع و أبى واستكبر لأن أشباه الرجال من أمثاله وسوسوا له في نفسه ألا تخرج له حتى يعطيك من المال كذا وكذا،فإن أبى يجره إلى المحاكم جرا فيستنزف وقته وماله، ولا يجد معه من سبيل إلا أن يدفع له مالا ليخرجه من مسكن بناه بعرق الجبين.فأين العهد و أين "الكلمة".
وقد تؤاخذني بعض النساء لائمة،مابالك تذكر الرجال دون النساء؟أقول لها:لا التمييز قصدي ولا المفاضلة غايتي،وإنما قضت العادة عندنا أن نقول،واعتادت ألسنتنا أن تجري،فالقصد هو أن الرجولة رمز الشجاعة والشهامة وعنوان الالتزام بالمباديء والتضحية لأجلها.وقد ذكر التاريخ فيما ذكر نسوة بلغن من الشجاعة والشهامة مبلغا لايقل شأنا عن الرجال،وقد يزيد عليه في مواطن كثيرة.وقد عرض لي في أحد الأيام أني كنت بحاجة إلى مبلغ من المال،وهو مبلغ كبير،وأذكر حينها أنا كنا نجمع مبلغا اتفقنا عليه يتسلمه أحدنا كل شهر نسميه "قرعة" أو " دارت" نقضي به بعض الحاجات أو نسدد بعض الديون،غير أن دوري لم يحن حينه،وكانت حاجتي لا تحتمل التأخير،فطلبت من أحد الزملاء أن يستبدلني دوره القريب ،فأنكر علي ورفض رفضا قاطعا قطع كل رجائي به،فانصرفت غاضبا ليس على رده الخائب وإنما على طريقته الفظة.وكانت "وفاء" زميلتنا في العمل وهي رمز للوفاء والمحبة والعطاء ،من أفضل مارأت عيني أدبا وأخلاقا وشهامة- كانت قد سمعت تحاورنا وعلمت حاجتي،فرقت لحالي،فسألتني :كم تحتاج؟قلت:مبلغا كبيرا،كذا وكذا.ثم أضافت:كم المدة حتى ترجع الدين إلى صاحبه.قلت:شهر واحد.قالت:هب المبلغ عندك غدا.في الغد جاءتني بالمبلغ كاملا،وهي تقول:لا تخجل إن أردت أكثر،ويمكنك أن تسدد مااستلفتك في مدة ثلاثة اشهر.استلمت المبلغ وشكرت لها صنيعها وأنا أقول :تبلغ بعض النساء من الشهامة و"الرجولة" مالم يبلغه أهل اللحى، وأنا أقصد الرجال.
لكن معظم الناس اليوم لايفون بعهودهم،يتنصلون من المسؤولية،يقدمون الوعود الكاذبة ويخلون بما اتفقوا عليه من شروط...وهذه والعياذ بالله من ايات المنافقين،فرسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم حدد للمنافق ثلاث أمارات:إذا حدث كذب،وإذا وعد أخلف ،وإذا اؤتمن خان.
من المفروض أن تطابق الأقوال الأفعال،في جميع الظروف والأحوال،حتى لا نكون من الذين قال عنهم المولى عز وجل:﴿كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالاتفعلون ﴾ بل نكون من الذين قال عنهم:﴿ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما﴾ ومن الذين ذكرهم ربنا في قوله:﴿إنما يتذكر أولو الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق﴾ صدق الله العظيم ومن أصدق من الله قيلا ومن أصدق من الله حديثا.
توقيع:عبد الكريم التزكيني