ثمن الخيانة (قصة بوليسية)
في عمق البادية، حيث الأرض تمتد كصفحة لاحدود لها ، لا يقطع أفقها الواسع سوى خيط الأمل الرفيع،هناك رأى "أمين"و"طارق" النور، طفلان لم يكن بينهما فرق في زمن ولادتهما ،وشاءت الظروف أن يكونا جارين التحم بيتاهما الطينيين التحاما واحتما كل مبنى بظهر الاخر.
نشآ في كنف الشمس، يركضان حفاة فوق الرمال الحارقة،والصخور الدامية، يطاردان الأحلام ويلهتان خلفها. كانا يتقاسمان كل شيء:كانا ظلين يلازم أحدهما الاخر،يقتسمان الطعام،يلعبان معا يضحكان معا ويبكيان معا. لم تكن مدرستهما سوى كوخ صغير يقف كالطلل وحيدا عند أطراف القرية، كان أشبه بحارس يراقب الأطفال وهم يترددون عليه،ويرجون من جنودها المعلمين أن يفتحوا بصيرتهم بنور العلم.
ومرت الأيام بهما،وكبرت الأحلام كما يكبر النخيل بالواحة رغم قسوة الطبيعة، وصارا على درب النجاح يدا بيد، خطوة بخطوة، إلى أن وجدا نفسيهما أمام بوابة الحلم الأكبر: الجامعة.
حين دلفا إليها، كانا كمسافرين وصلا أخيرا إلى المدينة بعد رحلة طويلة في صحراء المعرفة. الحياة هناك بمراكش مختلفة تماما ،المباني الحمراءالمشرئبة بأعناقها إلى السماء تزاحم النخيل في كل مكان، والوجوه تطفو عليها ايات النعم،ليست كالوجوه التي خلفاها من ورائهما في البادية،ومع كل هذه الطواريء ظل قلباهما ينبضان بإيقاع البادية، لأن الوفاء للأصل لا تقهره المسافات، ولأن الصداقة ليست سحابة عابرة سريعة الاختباء.
لم تكن الطريق في الحمراء مفروشة بالورود، بل كانت كغابة، تعج بأفكار مختلفة، وأشخاص يحملون وجوها لم يعتادا عليها. كان "طارق" يميل إلى الاندماج والاختلاط سريعا بالناس، ويحب استكشاف خبايا العوالم الجديدة، بينما ظل "أمين" متوجسا، يتمسك بعادات البادية كمن يخشى أن تضيع جذوره وسط زحام الغرباء.
ترعرع "أمين" و"طارق"، وتفرعت دروب الحياة أمامهما كما تتفرع أغصان الأشجار، كل غصن يبحث عن النور والغذاء. ولم تكن الجامعة مجرد مرحلة عابرة، بل كانت مفترق الطرق الذي حدد مصير كل منهما، دون أن تقدر على انتزاع جذور صداقتهما.
اختار "أمين" الطب، وكان يرى فيه رسالة نبيلة، لقدكان حلما قديما راوده منذ أن رأى عجوزا في قريتهم تتألم ولا أحد يخفف من أليم مرضها ، بينما اقتفى "طارق" طريق الفن، يرسم أحلامه بلون الأمل، وينسج قصص حياته فوق لوحاته مثلما ينسج الشاعر أبياته في ديوانه.
ولم يكن الطريق سهلا بالنسبة ل"أمين". فقد اصطدم بصعوبة الدراسة، ووجد عالما معقدا، مليئا بالتفاصيل التي لم تألفها ذاكرته، ومع مرور الأيام أدرك أن الحلم الكبير أثقل مما تطيقه نفسه.وأن أسرته التي خلفها بالبادية لايمكنها أن تنتظر أكثر،وبذلك لم يستطع إكمال رحلته كطبيب، لكنه لم يبتعد كثيرا عن المجال، فاختار أن يكون ممرضًا في التخدير، يسكن الألام ولو إلى حين.
أما طارق"، فقد كان وفيا لفنه،وظل يسير بخطى ثابتة نحو لوحاته وألوانه، حتى أصبح أستاذا للفنون التشكيلية، يعلم التلاميذ كيف يخلدون تفاصيل الحياة.
ورغم اختلاف الدروب، لم يبتعدا يوما عن بعضهما. صارا نجمين يتطلعان إلى سماء النجاح، يجمعهما الطموح ذاته."أمين" بزيه الأبيض بين المرضى يجوب المستوصف ، بينما "طارق" بألوانه المشرقة بين تلامذته، كان يلتقيان كل مساء، يحتسيان الشاي كما كانا يفعلان في طفولتهما، يتحدثان عن الأيام الخوالي ، عن البادية، عن الحياة التي أخذتهما بعيدا ثم جمعتهما من جديد.
لم تكن المدينة قادرة على تفريق جمعهما المتين، فظلا صديقين كما كانا، كأن الزمن لم يمر، وكأن الصداقة الحقيقية لا تهزمها المسافات ولا تغيرها الاختلافات. وحتى عندما قررا الاستقرار، اقتسما بيتا كمن يقسم شجرة وارفة الظل،كان من طابقين،تعاونا على بنائه،ولم يكن بينهما أدنى خلاف، كل أخذ حصته، لكن جذور الصداقة المتينة واحدة.
""""""""""""""""
...في الطابق العلوي، كان"طارق" يعيش مع زوجته وطفليه، و من تحته اتخذ "أمين" الطابق الأرضي مستقرا مع زوجته وطفلتيه...و الغريب أن الأطفال الأربعة، رغم أنهم أبناء رجلين مختلفين وأمين مختلفتين، فقد اقتربت أعمارهم وتشابهت ملامحهم بشكل لافت للنظر يثير الدهشة والإغراب! كان الأطفال بالعيون نفسها، وبالابتسامة ذاتها، كأن القدر أراد أن يعيد تشكيل الصداقة التي جمعت آباءهم وإنباتها في نفوس الأبناء.وكان الناس يتوقفون كلما رأوهم يلعبون بالقرب من المنزل، يبتسمون بدهشة وهم يعتقدون أنهم أشقاء جميعا.
كبر الأطفال وهم لا يعرفون الفارق بينهم، . كان البيت صاخبا بالحياة، مختلطا بين ألوان طارق ولوحات طفلاته، وهدوء أمين وتأمل طفليه. وحين يحل المساء، كانوا يجتمعون على سطح البيت، كما اعتاد آبواهما أن يجتمعا فوق الكثبان، ينظرون إلى النجوم، يحكون قصص الصحراء، وكأن الزمن يدور دورته ليعيد الحكاية من جديد.
وهكذا، لم تكن صداقتهما مجرد ذكرى من الماضي، بل امتدت و تجسدت في أبنائهما، وترسخت في جدران بيت واحد، رغم أن لكل منهما إيقاعه الخاص.
ذات يوم كان الجو لطيفا، و خرجت العائلتين كعادتهما للنزهة في إحدى الغابات المجاورة،كان الجميع مستمتع بجمال هذا اليوم، . وفي لحظة ما، اقترب "أمين" من صديقه "طارق"، ووضع يده على كتفه قائلاً:
"تعال معي، هناك أمر طارئ، أحتاجك الآن!"
" إلى أين ؟والأطفال والزوجات؟"
"الأمر طاريء..لابد أن نذهب سأخبرك في الطريق..ثم إننا سنعود على وجه السرعة"
" لا سرعة ولا شيء ،سر سيرا قانونيا،مازلنا نرغب في البقاء غلى قيد الحياة"
لم يتردد "طارق"، لطالما وثق بصديقه، فانطلق معه، ولم يكن يعلم الوجهة!
قبل أن يصل "امين" بصاحبه إلى وجهته ،طلب منه أن يأخذ حاجة من الحاجات التي يحتاجها الشخص الذي اتصل به،
في شقة "أمين"، جلس "طارق" والاستغراب طافح على وجهه، يسأل عن الأمر الطارئ، لكن "أمين" قدم له كوبا من عصير الليمون، وبدا هادئا أكثر من الهدوء نفسه.
و ما إن شرب "طارق" حتى بدأ يشعر بأن نفسه تهرب منه … العالم يلتف حوله، جسده يخذله، وعيه ينجرف بعيدا… وسقط في سبات التخذير العميق.وخرج "أمين" بعد ساعتين تقريبا من تخذير صاحبه. خرج من الشقة وكأن شيئًا لم يكن، عاد إلى العائلة بابتسامة مصطنعة،فلما وصل باغثهم :
"لقد تعرّض "طارق" لعارض صحي مفاجئ، علينا أن نذهب إليه في المستشفى!"
ثم هدأ زوجة صاحبه وأولاده وهو يقول :
"إنه بخير لا داعي للقلق"
ركب الجميع السيارة،فرغم طمأنته فإن القلوب ظلت قلقة، والأعين باتت مترقبة، بينما "أمين" يقود، وقلبه يسابق سرعة السيارة!وعند المنحدر الجبلي، لم يتردد… لم يضغط على المكابح… بل ترك السيارة تنزلق إلى حتفها!إلى الهاوية.صراخ وخوف ورعب لحظات صمت… ثم انفجار… ثم لا شيء!
تحطّمت السيارة، ولم ينج أحد. صرخات الأطفال، ونظرات الرعب في أعين الزوجات، كل شيء انتهى بلحظة واحدة! كان المكان يعج بالدخان، وكان القدر قد أسدل الستار على قصة بدأت بالصداقة… وانتهت بالمأساة ،بالموت!
وفي الضفة الأخرى في الشقة بدأ التخدير يغادر جسد "طارق" رويدا رويدا،ثم أفاق على ألم شديد …استيقظ من التخدير على ألم لا يُطاق، كأن جمرا وضع بين فخديه، وكأن شيئا انتُزع منه عنوة،بل هو شيء انتزعه منه صديقه "أمين" الذي خدره وأجرى له عملية جراحية أزال بها أصل الداء،قطع عضوه وجفف دماءه وخاط الجرح بكل حرفية .
استمر "طارق" في الصراخ و حاول أن يتحرك، لكن يديه ورجليه كانتا مكبلتين بإحكام مع السرير الذي تحول إلى قبر مؤقت لا يستطيع الهرب منه. كانت الغرفة مظلمة، والهواء مثقلا برائحة العرق والخوف والدم.
استمر يصرخ بأعلى صوته عل أحدا يسمع صراخه فيخلصه… لكن لم يأته الرد إلا بصدى صوته يرتطم بجدران الغرفة القاتمة...!
ثم أخيرا انتبه بعضهم وسمع الصراخ،واجتمع الناس على مشارف الباب ،طرقوا الباب بقوة ،ولما لم يفتح أحد ، اتصلوا بالشرطة ،فاقتحموا الباب ...ليجدوا " طارقا" مقيدا إلى السرير، بملابس ملطخة بالدماء، في حالة يُرثى لها!
فكوا قيده لكنهم لم يخلصوه من أليم عذابه،ثم رأى بعض أفراد الشرطة ورقة بجنبه فتناولها،فوجد فيها:
"هذا ثمن الخيانة... جعلتني أتألم أياما، والآن تألم لشهور وأعوام… عائلتك لن تراها بعد اليوم، أطفالك، زوجتك، والخائنة... أما أنا، فقد تركت لك الألم صديقا لك! لقد قررت الانتجار وأجر معي كل ماله صلة بك.أستبدلك بنا الالم وتأنيب الضمير "
كان المشهد مأساويا، رجل كان قبل ساعات أستاذا للفنون، صار الآن بقايا إنسان، محطما جسديا ونفسيا، عيناه زائغتان تبحثان عن تفسير، لكن لا تفسير سوى الألم!
سألوه، لكنه لم ينطق… لم يستطع!
لم يكن بحاجة لأن يسأل عن زوجته وأطفاله، كان يعلم أن "أمين" لم يترك شيئا خلفه، سوى الألم الذي سيلازمه للأبد.
وهكذا، انتهت القصة التي بدأت بطفلين في البادية، يكبران معا كالأشقاء، لكنها انتهت بواحد مشوه الجسد والروح، والآخر قد اختفى… بعد أن دمر كل شيء!
النهاية
توقيع :عبد الكريم التزكيني