📁 آخر المقالات

قصة بوليسية :الجريمة الشنعاء

قصة بوليسية
 البيضاء وجرائمها السوداء

(قصة بوليسية واقعية)

 الدار البيضاء المدينة العامرة الغامضة،تنبت فيها العمارات الشاهقة تتطلع إلى السحاب وتشرئب بأعناقها على الحياة بين شوارعها وأزقتها ومعاملها وسياراتها وضجيجهاوفوضاها...وعلى جنباتها وهوامشها تتناثر الدور الصفيحية كحبات الرمل.وتعمل الحكومة على محوها لأنها تشوه منظر المدينة وتبعث على الجريمة والعادات القبيحة،لذا تهدمها وتعوض أصحابها بقعا أرضية وإن كانت ضيقة كالقبور فإنها تخضع لمجموعة من الضوابط التي تفرضها وزارة التعمير والإسكان.

كان الحاج المدني من بين المستفيدين من التعويض، فقد منح قطعة أرضية مساحتها لا تتجاوز أربعين مترا ،لكنه فرح بها وأعد العدة لتشييدها،وكان له ماأراد بعد عناء وشقاء،كانت البناية من ثلاثة طوابق والطابق الأرضي،عمر كل طوابقها بأولاده:"عثمان" ذو الأربعين ربيعا وصاحب سبعة أولاد في الطابق الثالث،بينما "إبراهيم" في الطابق الذي يليه مع أولاده الأربعة وزوجته ،واتخذ الحاج المدني الطابق الأول مع الأم والبنت الصغرى،وترك الأرضي للابن الأصغر "إيهاب" البالغ من العمرأربعة وعشرين عاما ،لازوجة له ولا أولاد.

في إحدى أيام رمضان اجتمعت العائلة للفطور عند الحاج المدني،ولما أنهىوا  الفطور  ذهب كل إلى حال سبيله،النساء إلى المطبخ وغسل الأواني ،والأولاد والأب انتشروا في الأرض ،منهم من كانت وجهته المسجد لصلاة التراويح ومنهم من عمد إلى المقهى ومنهم من ولى وجهة  أخرى.

حين اجتمعت العائلة حول المائدة وقت العشاء ،تبين غياب "عثمان" على غير العادة، فانقبضت أنفاس الجميع. الأب، الحاج المدني، وقف مستغربا. "أين عثمان؟" سأل بصوت تعتصره الحيرة.هرع الإخوان والزوجات، وأخذت الأم تقبض  أطراف صدرها بالأيدي، وعيونها ذابلة .

تحركت الأسرة في المدينة تلهث باحثة في كل مكان: أخرجت الزوجة صورًا حديثة لزوجها "عثمان"، ومزقت الجدران بنظراتها، أرسلت الرسائل إلى الجيران، وسألت في المقاهي وساحات الحي، لكن لا أثر. الأطفال  في طابق "إبراهيم" بقوا يكررون اسمه ، كمن يغفو ويريد استحضاره في الحلم.

حين أدركت العائلة أن البحث الداخلي لم ينفع، لجأت إلى الشرطة. استقبلهم ضابط مرهق، استمع للصمت المتراكم في كلماتهم، ثم أخذ البلاغ ببرودة ، لكنه وعد قائلا:"يكون خير". ظلّت الأسئلة تطفو بلا إجابة: لم اختفى؟ ولأي وجهة صار؟ أم أن مكروها أصابه؟ 

...بعد مرور شهرين، وقد غرقت العائلة في بحرٍ من الانتظار والمآسي، تصاعدت آهات الفقد، واختناقات الحيرة. كانت المؤامرة الكاملة قد تستقر في قلوبهم: أن عثمان لن يعود، وأن القضاء والقدر قد قرّرا مصير العائلة. صارت الحياة مبهمة ترسل خلفها كل مصائبها.

لشهور، كرّس "الحاج المدني" وزوجته و أولاده  وذووهم أعمارهم في صلوات ودعاء وترتيل لآيات الرحمة؛ لكن لا بصيص أمل يُلمس، لا أثر لعافية، ولا  شمس فرحة تنبسط فوق عمارتهم.

حتى جاء ذلك اليوم الأسود الذي لم يكن حلمًا، وإنما كابوسا مشهودا: إذ اختفى "إبراهيم"، الأخ الأوسط، كما اختفى "عثمان" من قبل. لم يكن في ذلك ليلة رمضان، بل في مساء ربيعي عادي،وهكذا صارت الحياة، قاسية بلا ملامح، تمضي كالسيف في قلب العائلة المكلومة، تقسم أن تسعر نارا في كل الأقارب والأحباب.بدأت الأزمة من جديد، لكن هذه المرة ثقلها أكبر، وكأن القدر استأنف لعبته المقرفة.

كل ركنٍ في البيت يئنّ باسمَيهما، وكل نسمة تمرّ تجرّ خلفها وجعًا لا يُطاق.

  قضت الأم طوال الليل تناديه في منتصف العمارة، وزوجته

تنهار في زاوية في الطابق الثاني، تغرز أنفاسها في حائط الشقة.أما الأب، فقد شاخت ملامحه تلك التي كانت يوماً تحرس بنيانه، صار واقفا على السلم، ينظر إلى الأعلى والنوافذ،كأنّه يبحث عن ظلّه. الجميع يترقب  برعب، بينما أصغر الإخوة "إيهاب" يبكي: «أين إبراهيم؟ أين عثمان؟».

لم تعد أسرة الحاج المدني تحمل شيئًا، سوى ألمين يكسران كل لحظة: ألم الغياب، وآلام الاسئلة التي لا تجيب.

مرّت عشرون يومًا من السواد الدامس.  لم تجد الشرطة  دليلًا، كاميرات الشوارع لاتوجد لتسجّل شيئًا، والجيران لم يروا أي شيء. راحوا يشكون بثهم وحزنهم إلى الله.

التجأ الحاج المدني إلى ضابط محنك لفك لغز اختفاء ابنيه. فقرر الضابط لأول وهلة أن يلقي نظرة على العمارة التي يسكنها الحاج و أولاده.حل الضابط بالبناية،وفي المدخل عند الطابق الأرضي استرعى انتباهه مع اثنين من مسساعديه- كان قد جاء بهما  - وجود بصمات على الجدار  فسأل الضابط الأب: 

- من فعل هذا؟ولم؟

- هذا ابني "إيهاب" ،لاأعلم لم ؟لكنك تعرف هذا الجيل سيدي،الله يهديهم.

- أين هو؟

- إنه بالداخل في غرفته.

دخل الضابط مع مساعديه شقة "إيهاب" فوجدوه هناك ووجدوا جدران الغرفة ملطخة ببصماته بلون أسود.فسأله الضابط مستغربا:لم فعلت هذا ؟أجاب :لا شيء مجرد أوساخ حجبتها لأنها أساءت منظر الجدران؟قال الضابط:وماذا عن المدخل القريب من الدرج؟

نظر الضابط إلى سرير في الغرفة فأمر مساعديه بإزاحته ففعلا، فانكشفت من تحته بقعة ذات صباغة مخالفة لأرضية الغرفة،فسأل الضابط "إيهابا":أأنت فعلت هذا؟ولم؟أجاب في ارتباك:مجرد إصلاحات،أصلحت بعض التشققات.

قال الضابط :إصلاحات؟؟ تشققات  أممم؟؟؟ ثم التفت إلى الحاج المدني وقال ناولني فأسا ،فلما جاءه به قال الضابط لمساعديه وهو ينظر إلى "إيهاب": انتبها جيدا وخذا حذركما.ثم أخذ يحفر فاقتلعت قشرة كبيرة انبعثث منها رائحة نتنة بعثث الجميع على الغثيان ،فأمر الضابط  مساعديه بتقييد "إيهاب" واستمر في الحفر حتى وصل إلى جثة،أمر مساعديه بانتشالها،كانت مبثورة الرأس واليدين والرجلين .حدج الضابط  "إيهاب"بعينين صارختين وقال :"الان عرفت هذه البصمات ،أردت بها إخفاء معالم الجريمة.  ثم سأله:ما فعلت  بالرأس والرجلين واليدين؟أجاب دون تردد :دفنت كل شيء  في رمل هناك بالاعدادية.اتصل الضابط برئيسه وقد أخبره بكل شيء فالتحق به ومعه فريق اخر وهرع الجميع إلى الإعدادية ومعهم الجاني ،حفروا و أخرجوا الرأس واليدين والرجلين.

  التفت الضابط إلى الجاني مرة أخرى وسأله :أين جثة أخيك؟لم يجب بكلمة.فلما ألح عليه ،قال:ألقيت به في مجرى المياه العدمة.

هرع الجميع إلى عين المكان ،رجال الشرطة والدرك والمطافئ والوقاية المدنية والقوات المساعدة والبلدية وقاضي التحقيق ووكيل الملك وبعض المتدربين ...وكثير من الخلق،وكان مجرى الماء على طول ثلاثة ألاف متر حيث يصب في البحر.بعد عناء شديد انتشلوا إحدى اليدين وبعدها عثروا على اليد الأخرى وفي جانب اخر وجدوا الرجلين وفي منطقة أخرى الجثة لكنهم لم يعثروا على الرأس وقد مشطوا كل المجرى بمافيه مكبه من البحر ،ربما تدحرج إلى قاع البحر.

لكن مالذي حمله على قتل اخويه وكيف فعل هذه الجريمة الشنعاء؟

في معرض اعترافه تبين أنه كان يعتمد على أخويه وأبيه في مصروف جيبه حيث كان مدمنا على المخدرات والخمر ولم يكن له عمل .وهو ما أتعب أخويه و أرهقهما فقررا أن يقطعا عنه المعونة.فخطط للانتقام.

قال إنه في تلك الليلة من رمضان خطط لكل شيء وانتظر الانفراد ب "عثمان" ،وانتظر نزوله ، تربص به إلى أن وصل مدخل العمارة فهوى عليه بمدقة "ماصة" على الراس سقط على إثرها صريعا، فسحبه إلى داخل الشقة وبتر الرأس واليدين والرجلين بسكين ومنشار حادين كان قد سرقهما من محل جزار بالحي . دفن الجثة المبثورة  وانتظرلينقل  الأطراف إلى   الإعدادية.

ونفس ما قام به مع أخيه "عثمان" فعله مع أخيه "إبراهيم" ، فكر ودبر الخطة،وانتهز الفرصة ثم هوى عليه بالمطرقة الكبيرة .قطع جتثه أطرافا أطرافا ثم حملها إلى مجرى المياه العدمة.

تم الحكم على الجاني بالإعدام، واكتوت العائلة المسكينة بمصابها.

النهاية

العبرة:

"الروح عزيزة عند الله" مقولة نرددها كثيرا،وهذه الحكاية تؤكدها،فالله عز و جل ألهم هذا الضابط ليفطن للبقع السوداء على الجدران و إلا ماكان اللغز ليفك.

إذا مات الضمير، لا تبقى للدم حرمة ولا للرحم وصال، ويغدو الإنسان وحشا بثوب بشر، لا تردعه قرابة ولا تردّه رحمة.

ملحوظة:

 هذه القصة"من حكايات عبد القادر الخراز  ضابط سابق، متقاعد وقد تم التصرف فيها لتناسب النص المكتوب"

تعليقات